مركز "تكوين"- التنوير المأزوم و تحديات القبول في مصر

فور الإعلان عن تأسيس مركز "تكوين" في مصر، استُقبل بتحفظات شديدة من جانب شريحة واسعة من المصريين. المركز، الذي يُعرّف نفسه بأنه ذو توجه تنويري، يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه المعارضة ناتجة عن مجلس الأمناء الذي يضم شخصيات إعلامية وصحفية وفكرية معروفة بتاريخها في "التشكيك" في الثوابت الدينية، وخدمة الرواية الإسرائيلية حول القدس، وإثارة الجدل واستفزاز الرأي العام، أم أن الاعتراض يعود إلى تبني "التنوير" كهدف رئيسي وأولوية قصوى؟!
أرى أن مأزق مركز تكوين، الذي بدأ قبل انطلاق فعالياته، قد يجمع بين الأمرين: الصورة النمطية السلبية لـ "مجلس الأمناء" في نظر الجمهور، والسمعة المثيرة للجدل لمفهوم "التنوير" ذاته في الوعي الجمعي.
"تحرير المرأة"
إذا كانت النظرة السلبية لمجلس الأمناء راسخة في أذهان الكثيرين، فإن الإشكالية الحقيقية تكمن في مفهوم "التنوير" ذاته، وهو ما يستدعي إعادة النظر فيه لفهم أعمق لمشاعر القلق والتحفظ المبررة.
يتطلب ذلك استحضار تجربة قاسم أمين (1863مـ ـ 1908 مـ)، الذي تصدر الدعوة إلى "تحرير المرأة". كان أمين محقًا في عصره، حيث كانت المرأة في أمسّ الحاجة إلى دعم مجتمعي قوي لتمكينها من الحصول على حقوقها في التعليم، وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية، والتحرر من القيود الاجتماعية الذكورية التي همشت دورها في المجتمع.
إلا أن الاستغلال "الانتهازي" لأفكار قاسم أمين من قبل المتطرفين العلمانيين في الأجيال اللاحقة، أساء إلى مفهوم "تحرير المرأة"، حتى أصبحت عبارة "امرأة متحررة" تثير في الأذهان صورًا نمطية سلبية، مثل التمرد والجرأة المفرطة والخروج عن الأعراف والتقاليد المجتمعية الأصيلة.
بالمثل، ساهم العلمانيون العرب في تشويه صورة "التنوير" وتحويله إلى مصطلح مُنفّر، من خلال استيراده بكل تفاصيله وإيحاءاته ومفاهيمه المعرفية من بيئته الأوروبية الأصلية، حيث نشأ كحركة اجتماعية تعارض "سلطة الدين" في الحياة العامة.
فالتنوير، منذ بداياته مع "فرنسيس بيكون" في القرن السابع عشر، وصولًا إلى مفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر، يحمل معنى واحدًا، كما يرى محمد عمارة: "أن يحل العقل محل الدين!!"
والذين يروجون للتنوير في عالمنا العربي يتبنون هذا المفهوم تمامًا. يقول الدكتور مراد وهبة، أحد أبرز المدافعين عن التنوير: "التنوير يعني أنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه!"
نتيجة لذلك، تدهورت صورة "التنوير" بشكل كبير، وأصبح في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مرادفًا لسلسلة من المصطلحات ذات السمعة السيئة في الوعي العربي.
حاولت المؤسسات الثقافية الرسمية، وهي نفسها التي أساءت إلى مفهوم التنوير، ترميم صورته المشوهة من خلال حملات دعائية مكثفة عبر مطبوعات رسمية مدعومة ماليًا.
ففي عام 1990، نُظم معرض القاهرة الدولي للكتاب تحت شعار "مائة عام على التنوير". وفي عام 1992، احتفلت دار الهلال بمرور مائة عام على تأسيس مجلة الهلال، تحت نفس الشعار. وفي عام 1993، تصاعد الحديث بشكل ملحوظ وغير مسبوق في وسائل الإعلام عن قضية التنوير، وبادرت الهيئة العامة للكتاب بإصدار سلسلة من الكتب اليومية تحت عنوان "التنوير" وبأسعار زهيدة.
تناولت هذه الكتب ما أُطلق عليه "محنة التنوير"، وأجمعت على أن المشروع التنويري قد تحول على يد ما وُصف آنذاك بـ "المد الإسلامي" إلى "محنة للتنوير!!". واللافت أن غلاف الكتب كان يحمل بجانب كلمة "التنوير" لافتة كبيرة مكتوبًا عليها كلمة "المواجهة"، في إشارة إلى مواجهة "التيار الإسلامي" الذي اعتُبر "عدوًا" للتنوير.
تنوير مأزوم
لكن عمليات الترميم هذه لم تحقق النتائج المرجوة، فتم استبدال مصطلح "التنوير" المأزوم بمصطلح "الحداثة". غير أن "الحداثة" عانت هي الأخرى من نفس التشويه الذي لحق بـ "التنوير"، حيث تبنت الحداثة في نسختها العربية مقولة "س.م بورا" حرفيًا: "الحداثة لم تعد تكتفي بمقولة تجاوز الماضي، وإنما باتت تذهب إلى القول بأن الماضي خانق، ولا بد أن يُقذف به من فوق سفينة الحداثة"، وهو ما أشار إليه شكري عياد بأن "الحداثة تستهدف أنسنة الدين .. أي إرجاع الدين إلى الإنسان وإحلال الأساطير محل الدين.. وإرجاع المقدسات والغيبيات إلى جسم الإنسان"!
في مقال لها نُشر في شتاء 1991 بعنوان "الحداثة وعقدة جلجامش"، تقول خالدة سعيد: "إذا كانت الحداثة حركة تصدعات وانزياحات معرفية قيمية فإن واحدًا من أهم الانزياحات وأبلغها هو نقل حقل المقدس والأسراري في مجال العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش"!
إذن، الحداثة كما قدمها المثقفون العرب، هي ممارسة لا تعترف بأية اعتبارات تميز "الحقائق" عن "الأساطير"، وهي نقطة ارتكاز ثابتة ترتب عليها سلسلة من المواقف المبدئية التي تتمحور حول تقديم تفسيرات تهدف إلى إهدار أية هيبة أو وقار أو قداسة للعقيدة الدينية، ومحاربة تجلياتها الروحية والأخلاقية، باعتبارها معطى (إنسانيًا ـ خرافيًا) يجب مجابهته كأي اختراع إنساني! أو كما لخصها "كريستوفر بتلر" بقوله: إنها تضع "ما هو وهم وما هو حقيقة على قدم المساواة.. وإنها تفقد الثقة في كل نظام أو فلسفة أو مبدأ أخلاقي أو عقيدة دينية".. ولا تقيم وزنًا لتقاليد سابقة.. أو لأعراف أدبية قارّة.. ولا تلبي رغبات فطرية متواترة".
وبتحليل هذه المقولات، نجد أنها تحمل مفردات دالة على أن الحداثة تيار يدعو إلى ممارسة العنف والعداء والكراهية ـ (لاحظ كلمات مثل تدمير، قطيعة، يقذف، خانق، سخرية..) ـ ضد هوية الأمة وتراثها الديني والثقافي وبكل ما يربطها بأصولها الحضارية (لاحظ كلمات مثل: النظام القديم، الماضي وما شابه..)!
مواجهات فكرية عنيفة
كانت الحركة الحداثية العربية حتى ذلك الحين، تنأى بنفسها بعيدًا عن أي صدام (أو تواصل) مع محيطها السياسي أو الاجتماعي، وكانت مجرد فعل نخبوي متعالٍ يتعمد بناء قطيعة جذرية مع الجماهير والرأي العام، إذ يقرر ذلك "أدونيس"، وهو أعلى الأصوات الحداثية العربية صخبًا، بقوله: "ليس لي جمهور، ولا أريد جمهورًا". ويقول محمد عفيفي مطر متسائلًا: "مَنْ القارئ؟ أهو من يعرف القراءة والكتابة؟ أم طالب الجامعة؟ أم المثقف؟ أنا لا أعرف القارئ إنما أعرف ما أقوله أنا".
بيدَ أن المواجهات الفكرية العنيفة التي صاحبت سلسلة أعمال نصر حامد أبو زيد (1992 ـ 1995) وقدمها إلى لجنة الترقية لنيل درجة أستاذ، أنزلت "الحداثة" من برجها العاجي، واصطدمت ولأول مرة مع الرأي العام من جهة، ومع مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية من جهة أخرى، وشكلت في محصلتها النهائية أولى بدايات "أزمة الحداثة" في العالم العربي، إذ كشفت هذه الأزمة ثلاث مساحات كانت تمثل بالنسبة للرأي العام مناطق مظلمة أو غامضة في التعريف بأهداف وغايات الاتجاهات الحداثية العربية، أولها علاقة الحداثة بالدين، ثانيها الوزن العلمي لروادها والداعين لها، ثالثها تخليهم عما تواضع عليه البحث العلمي من أخلاقيات.
وهكذا، عادت الحداثة التي كان من المفترض أن تكون بديلًا عن التنوير، إلى التداول داخل قاعات الدرس في أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، فيما ظل التنوير بضاعة تخضع من وقت لآخر لعمليات تدوير وإعادة إنتاج من قبيل الوجاهة الثقافية "الفارغة" ونزعة التعالي التي لا تستند إلا إلى تاريخ وسيرة ذاتية سيئة السمعة، مما قلل من فرصته في نيل القبول في مجتمع كلما سمع اسمه، تحسس عقله ودينه وتراثه، وعلاقته بمنظومة قيمه المحافظة، وعلاقته بالتاريخ، وعلاقته بالأرض.
ولعل ذلك ما يجعل فرص "مركز تكوين" في الحصول على القبول في مصر والعالم العربي، مهمة بالغة الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة.
